Friday, 15 September 2017

ابى : محمد عبد الحليم عبدالله. واحة الامان

محمد عبد الحليم عبد الله
رجل بسيط عاش ينشر الحب ويفشى السلام .
يأكل قليلا و يفكر كثيرا و يعتنى بمن حوله طول الوقت .
فلاح ظن  فى طفولته أن قرية كفر بولين مركز كوم حمادة بمحافظة البحيرة هى حدود الكون ، و قناطر كفر بولين  تروى أرضها لتطعم العالم .و أغلب الظن أنها بقيت كذلك داخل نفسه حتى دفن فى ثراها.
محمد عبد الحليم عبدالله ، الأديب الإنسان ، الذى لم يضع حدا فاصلا بين عالم الكتابة الذى وصف بالرومانسية وعالم الواقع الذى أكتوى بناره ، لكنه عاش مؤمنا أن الخير هو القاعدة و الشر هو الاسثناء ،  كم تصور أن العدالة لابد أن تسود العالم  ، وأنه سيأتى يوم يملأ فيه الحب جنبات الكون !
صبغ الدنيا بصفاء نفسه و اتهمه معارضوه بالانفصال عن الواقع ،و أنه يأخذ الى الناس الى عالم وهمى ..لم يروا ولم يفهموا .. أنه كذلك ..لم يغرر بأحد و لم يبع الوهم للقارىء ، لقد عاش نفسه بلا تزيف  ، فسكب روحه على الورق و أودع الحروف نبض قلبه ..
 كان يرى أنه يستطيع .. فالإنسان يستطيع أن يحول  الألم الى سعادة ، و ان يصنع من القبح جمالا .
 عاش محمد عبد الحليم عبد الله،  يعول نفسه وأسرته و يخدم أهل قريته ، بحس فنان و قلب إنسان و عقل معلم .
 رحل أبى عن الدنيا  قبل أن أتم سنواتى الثمانى ، و عشت و إخوتى بين كتبه وقيمه التى لقنتها لأمى  و حفظتها عنه و علمتنا  إياها ، والتى عتبرها تلميذته المجتهدة  .
يقول البعض إن أبناء المشاهير يصورون ابائهم كأنبياء بلا نقيصة ، و لكنى أقول : إن نقيصة أبى أنه نسى أن  يحب نفسه  ،أو يتصارع على دنيا ، أنه كان يعيش كما يكتب  بلا ازدواجية .
 كان واحدا من عمالقة الأدب العربى فى القرن العشرين ، و كان يرى أن القمة تتسع للكثير و عندما هاجموه ، لم يبال و أكمل كما بدا .روائى و صاحب رسالة ولا يكتب إلا ما يؤمن به، ولم يساير موضة الستينيات فى الكتابة ليرضى أحدا بل ظل متفردا و إن تلقى الطعنات .
محمد عبدالحليم عبدالله ذهب للقاهرة صبيا فى الثانية عشرة  من عمره ليعيش عند أحد اعمامه ، وليكمل تعليمه و يعود "افندى" ب "بطربوش" يحمل الشهادة الكبيرة وأن يحقق حلم أمه ، الفلاحة  ، و التى كان بحبها ويقدرها  ورفض أن يتزوج وهى على قيد الحياة حتى لا تشعر أن امراة أخرى تشاركها فيه ،  و لطالما عجبت من تصريحه بأنه ورث عن أمه حسها الفنى وليس عن والده ، فالفلاح عادة يفخر بانه يشيه اباه وليس أمه لكنه كان دائما فخورا بها معترفا بفضلها .
لقد كانت هذه الفلاحة  هى الدرس الأول فى احترامة للمراة ولم تكن تدرى انها تصنع جزءا من تاريخ مصر ووجدان أمه و كاتبا من أشدالمناصرين للمرأة و المعبرين عن مشاعرها و قضاياها.
لقد اعتز أبى ببناته كاعتزازه بابنه ، ولكنه أدرك مبكرا عن أقرانه أن المراة كالشجرة كلما اعتنيت بها أعطتك ثمرا و ظلا   وانها عقل و روح ، ليست ميراثا أو متاع .
علمنى أبى ..الفخر
أن اكون فخورة بوطنى،  و جنسى ، بعقلى ، و إنسانيتى
و لكن على أولا  أن أصنع ما أفخر ، فمن يبنى نفسه على أساس لا يستطيع أن يهدمه أحد.
أراك يا أبى عطرا نثره الله على الدنيا من عليائه ، وضع فى قلبك الرحمة و على لسانك الحكمة و فى يمينك الخير كتابة وعملا .
لست نبيا .. ولست كاملا .. و لست معصوما .
فالكمال لله و العصمة للأنبياء
و لكنك أبى ..و انى أحبك و كفى الحب دواء لكل داء
فعين المحب عن كل عيب كليلة .
رحم الله ابى معلما و رمزا .
رحم الله محمد عبد الحليم عبد الله..

لقد قرا  ابى لامه رواية(لقيطة ) اولى رواياته كتبها  ولم يبالى انها  اميه ، ولكنه اعتاد مشاركتها اشيائه المهمة .
بعدها و قرا  لزوجته جميع رواياته،  وكانت تنتقده وكان يأخذ نقدها فى الاعتبار.
احترم ابى الحرية بمعناها الصحيح ، و علمنا ذلك ، فكان  عندما يعود من العمل ، كان يطرق الباب مع انه كان يحمل مفتاح بيته ، علم بنائه الثلاثة ( انوار ، هشام ،حنان) الاستئذان وعدم التدخل فى خصوصيات الغير مع انه كان يعشق المشاركة  ومعرفة تفاصيل حياة من يعيشون معه وحوله
كان يعيش معنا فى المنزل ، ابنا اخيه المتوفى الذين يدرسان فى القاهرة،  وكان اخوه و اخته الذان بقيا على قيد الحياة  جزءا يوميا من حياته .اما بقية اهل القرية فلم يغلق فى وجههم بابه قط .
عندما اتذكر الايام والليالى القليلة التى عشتها فى كنفه ،اتذكر  معها صوته و انفاسه و رائحته،  لقد كان ابى كيانا يملأ المكان حوله وليس مجرد شخص ينسى بمجرد الانصراف  ،  ابى الذى كان يحب التفاصيل  كان دائم السمر  معنا فى ليالى سمره كان يحصل على كل تفاصيل حياة المحيطين به  دون عناء ،من الطفل للمراهق للشاب للخادم .
 فعلى الاسرة ان تكون مترابطة ، مهما كلف ذلك من جهد او مال  ، فكان يقسم يومه بين اسرته و عمله و عدد قليل من الاصدقاء ،  ولا يجرؤ احد من اهل بيته على ان ياكل منفردا او ان يحتفل منفردا او ان يحزن منفردا
لقد كان عرف  فى حياته القصيرة  معنى" القناعة " و عندما سأله احد الصحفين : لماذا اصبح اقرانه من الادباء، يمتلكون سيارات و عزب و بيوتا فخمة  ، فى حين انه لايملك ذلك رغم تصدره قائمة مبيعات  الروايةالعربية انذاك .فلماذا لا يكون مثلهم ؟؟
اجاب : كل ميسر لما خلق له .هم سعداء هكذا وانا سعيد هكذا.
محمد عبد الحليم عبدالله، كان مؤمنا بالاستثمار فى الانسان ، لم يملك ما سؤل عنه عن بخل و لكنه فضل ان يستثمر ما يدره عليه عمله بطريقة مخنلفة عن الاخرين ..ارى الان بعد ما نضجت انها الابقى .
كان يرى ان هناك مهام عديدة عليه ان ينجزها قبل الرحيل ، بخلاف عمله كاديب وكان يشعر دائما باقتراب اجله وقصر عمره رغم انه لم يكن يعانى من داء عضال.
كان ابى يعبش حياته ببساطة و كما يحب و كما تعود ولم يفكر يوما انه واحدا من كبار الادباء فى الوطن العربى ومن ثم عليه ان يفعل كذاو كذا
كان يحب القيلولة و عندما يستيقظ يجمع ابنائه ثانية رغم انه كان اجتمع معهم على مائدة الغداء ، ليتحدث معهم عن المدرسة و اصدقائهم و المدرسين و طموح كل منهم وما يتمنى ان يكونه فى المستقبل ، و ما السبيل فى رأيه لتحقيق احلامه.
كان يهتم بما درسنا من قران و كانت يحب ان يراجع معنا ما حفظناه و يصحح لنا ما نخطأ فيه ، مع ان المذاكرة كانت مهمة امى.
بعد القيلوله والجلوس معنا يبدا هو رحلته مع القراءة والكتابة ، كانت كل ابداعات ابى وهو جالس فى الفراش ،كانت غرفة المكتب مخصصة لتصوير الصحفى كما كان غرفة الصالون مخصصة للضيوف .
قريه كفر بولين فيها نشا ، واليها عاد  ..لم يكن يعلم ان الله سيتوفاه وهو فى الطريق عائدا منها لم يغادر حدودها و التى  اوصى بان يدفن فيها ،لم ينقطع عنها قط ،كان يزورها بشكل دائم و لم ارى فى حياتى ابى يجلس مع فلاحين الا وافترش مثلهم الارض لم يجلس على كرسى ويترك الاخرون على الارض ، و عندما كنت اسير معه فى طريقنا من الحقل الى البيت ،لم يكن يكف عن شرح الاماكن و تعريفى بها، و التغزل فى  سرد الذكريات و التغزل فى جمال الطبيعة ، ولم يكن يكف عن القاء السلام على كل البشر من يعرف منهم ومن لم يعرف ، كم كان حبه لقريته كبيرا و لقن ابنائه هذا الحب و جعل حب القرية جزءا من حب الوطن .
وفهمنا معنى الوطن، والعلم ؛والقسم و كنا نردده كل صباح فى طابور المدرسة دون وعى.
ربما يرى البعض انى اغالى فى وصف ابى بالمثالية و لكنهم لم يحضروا معنا دروس الوطنية وحب مصر و كيف للصغير قبل الكبير ان يفعل شيئا من اجل الوطن والمعنى الحقيقى للاستشهاد قبل ان يلوثه المتطرفون . الروح رخيصة فى سبيل حماية مصر.
شبتت بعد هزيمة مصر فى 67 و شبتت على شعور ابى بالحزن عندما يتاتى ذكر سيناء ، وفهمت ان ذلك وجعا و انا مازلت صغيرة و فهمت معنى ان يكون اخوك المصرى، مهجرا من بيته و عليك ان تساعد المدرسة فى جمع معونة الشتاء و توفير الغذاء و  الكساء الاساسى لهم لان ذلك واجبنا نحوهم  حتى نحرر الارض و علينا ان نتسلح بالعلم
لن يهزمنا الا الجهل ولن ننتصر على عدونا المدعوم من دول عظمى الا بالعلم .
كم كان قاسيا ان تجعل اطفالك يفهموا ان الواقع قاسى ،و ان الحرب كريهة وان عدونا غدار و مدعوما ، و ان الدخول فى مواجهة معه ليست نزهة .
كان ذلك قاسيا ،  لكن ابى فعلها رغم انه كان حنونا و كان بشفق علينا عندما نشعر بقسوة الواقع .لكنه كان يرى ان واجبه يقتضى ان يسلحنا بالفهم والايمان وان لدينا قضية  عادلة لابد ان نكافح من اجلها  ، ولم يتخل ابدا عن اللامل ولم بكف لحظة عن غرسة فى نفوسنا و رعايته كبستانى بارع.
لقد كان يرى فى نفسه المعلم لاسرته واصدقائه وكل من طلب مشورته  و ان يقرب بين الناس و يشيع الفضيلة و ييسر سبل الكسب الحلال ما استطاع ، وان يرعى صغار المؤلفين والموهوبين ويدعمهم  ، لانه  كان يؤمن بتعاقب الاجيال كما امن بتدوال السلطة .
محمد عبد الحليم عبدالله .لم يكن عملاقا بحسده حتى يحتضن كل من حوله ، لكنه حمل فكرا نقيا وقلبا عملاقا فيه متسع و موضع لكثير من انواع الحب.
 كان كلامك يا أبى جميلا ، لياتى صمتك قسريا مؤلما .
 ابى واحة الامان التى لا يجود بمثلها الزمان كثيرا.
ابى الذى اسقط معنى التخلى وكلمة الخذلان من قاموس حياته ، فلم يلجأ له احد قط و خذله او اعتذر عن مساعدته ،
 سيبقى عمله صدقة جارية ،  وسيبقى بشخصه و اعماله الادبية  الدرس الاول لكل محب صادق ،و ستبقى سيرته عطرة بين اهل الارض وتتردد عند اهل  السماء باذن رب السموات و مشيئته .
سيظل محمد عبد الحليم عبد الله رمز الحب الطاهر و الفن الرفيع و العطاء الممتد وان رحل بجسده.
و سيظل محمد عبد الحليم عبد الله نبراسا وملهما لى ولاهله ولكل شريف
رحم الله ابى .
رحم الله محمد عبد الحليم عبد الله