الفرار الى السجن
اسوار عالية .. بوابات كبيرة موصدة .. برج مراقبة يقبع داخله جندى فى وضعية اطلاق النار .. ورياح تنوح ..واقع وليس كابوسا للاسف.
صديقى لم اتخيل يوما ان يحول بيننا ذلك الواقع المرعب .. تأملت المشهد الذى اعتبر أنا جزء حيوى منه فى انتظار فتح ابواب السجن ,, طوابير من البشر متراصة فى انتظار فتح الابواب ..
السجن .. نعم السجن يا الهى ذلك (الفتى) حبيس تلك الاسوار ,, قابع خلف تلك البوابات , كل تلك الحراسة على ذلك (الفتى ) عاشق الحرية محطم القيود .. لكن عشقه لها هو من ساقة الى هنا ..سجن مشدد ,وسط هؤلاء القوم بجرائمهم المتفاوتة من قتل لسرقة , لاتجار فى المخدرات .. انه فى نظرى (فتى يافع ) رغم ان فارق السن بيننا لا يسمح بذلك , و الا اننى كنت ملاذا آمنا يلجأ اليه وقت الشدة ,وهو يثق انى سأحاول المساعدة قدر الطاقة, وإن لم استطع ..فهو معى فى أمان , لن أفشى سره .لذلك بقى فى نظرى ذلك (فتى ) ابن الناس المتمرد الذى أصبح لآن حبيس هذة الاسوار
اهالى المساجين ,, مشهد اشبه بطابور الجمعية فى افلام السبعينات والثمانينيات المصرية .. كثيرون من هم فى السجن و عدد اكبر يزورهم , لا يبدو ان أحدا فى هذا البلد حر طليق؟؟
هذا هو ليمان طرة ., سجن بمعنى الحقيقى لا المجازى .بهذا القدر من الازدحام . ووجدت نفسى انظر لنفسى وشقيقى صديقى ..و وجدت سجونا عديدة تسكن صدورنا وعقولنا وارواحنا .
. البرد ونواح الريح ووابخرة الانفاس فى رطوبة الصباح ., رصيف الحى الشعى والطابور والجندى فى البرج فى وضع الاستعداد ..كنت حديثة العهد بالمشهد , لكن شقيقى صديقى لم يكونا كذلك , لقد حفظا الاجراءات لكنها مازالت مؤلمة رغم تكرارها و رغم مرور السنوات , فبعض الفصول فى حياتنا تبقى موجعة , رغم التكرار , هذه هى نكبة اصحاب العاطفة ,,فالبؤس مازال يسكن ارواحهم وتنطق به ملامح وجوههم . ولكن ما باليد حيلة .
برودة الجو غير المعتادة .. زادت قسوة الواقع , بسؤال مرير .. رددناه همسنا حتى لا نزيد معاناة بعضنا البعض .اذا كنا نشعر بقسوة برودة الجو بهذه الدرجة ونحن نملك رفاهية التدفئة ولا قيود على ملابسنا .. فكيف يعانى السجين ,المقيد بنمط ملابس لابد من الالتزام به؟؟؟ فهو جزء من قوانين السجن ..
آه.. انه السجن مجددا يفرض نفسه على كل ما يحيط بنا حتى أنفاس الصباح .
الوقت يمر تقيلا فى انتظار فتح الباب للزيارة ,, مابال الانتظار للافراج اوانتهاء العقوبة . حاولنا قتل الوقت بالدردشة أو تجميع الاحتياجات فى اكياس ,محاولة بائسة للاحتيال على المشهد لعلنا نخطف منها أى بهجة .
وشاهدنا الركب يتحرك وقررنا للانضام ,, لم اعد على الرصيف المقابل اصبحت على باب السجن ولم اكن ادرك ان الباب قريب لهذة الدرجة من عنبر الاستقبال .. ووجدت نفسى اقف فى السجن .. كم هو قبيح .. وكأن قبحة جزء من العقوبة , وكأن فقد الحرية ليس بالعقوبة الكافية .
نظر الضابط الشاب فى بطاقتى وقال : غير مسموح لك بالدخول , ققط اقارب الدرجة الاولى ,
يالهى . انه فصل جديد من ذلك الكابوس
لم افزع كما ينبغى , ولكن الاخوين تملكهما الفزع نيابة عنى .. بالإضافة لمشاعر الحرج و كأنهما مسؤلين عن سن القانون , أوكأنهما استدرجانى للخوض التجربة والوجود فى ذلك المشهد لمجرد موافقتهما على الزيارة . وبالسؤال عن الحل .. جاء الرد : : موافقة الادارة
ذهب الاخ الأكبر للحصول على الموافقة ..وبقيت انا والأصغر على الباب من الداخل , و الذى حاول أن يتغلب على مشاعر القهر بتجاذب اطراف الحديث و سرد قصص عن حال البلد ,ونوادر مطبات رحلات الطيران التى يعيشها بشكل دائم بحكم عمله كمضيف , كل ذلك وأعيننا مثبة على الباب الداخلى الذى دخل منه الأخ الأكبر للحصول على التصريح .
طال الوقت , و تشعبت الأحاديث وتعددت الروايات والقصص.. ومع كل دقيقة تمر أرى مشاعر الحرج تتمكن من ملامح الشقيق , وتتحول تدريجيا لأحساس عميق بالذنب , وتأكيدات من طرفه انها المرة الأولى التى يحدث فيها ذلك..
وشعرت بوطأة مشاعر الحرج ,, وهى تزيد الموقف بؤسا ,, باردت بشرح كم أشعر بمسؤليتى عن أخيه ,, كما لو كان طفلا تحت وصايتى..صداقتنا ليست تقليدية ,,فأنااحيانا ملجأ , أو ضمير .. وكثيرا ما كان يروى لى ما يعلم انه سيتلقى عليه تأنيب ,, لكن ذلك لم يمنعه من الحديث معى , حالة اشبه بمن يسأل عن فتوى شرعية .. من الوارد جدا إلا يوافق الرد هوى نفسه , لكنه اعتاد ان يحكى و اعتاد أن يسأل , واعتدت ان اسمعه وأقيم تصرفاتة دون أن اجامله , ودون اكتراث لموجات الغضب الصبيانية التى تجتاح ملامحة , وليكزعلى اسنانه و ليغير مسار الحديث ,, ليعود مرة أخرى ليقص هفوة أخرى .. وهو واثق انه سوف يتلقى التأنيب عليها . انها علاقة فريدة .
كانت دهشته عظيمة , ربما لم يتخيل كل تلك الابعاد الفلسفية لصداقتنا .. وان كان ذلك لم يمح احساسة بالذنب..
ووجدت من تمام الفلسفة ان استغرق فى معايشتى لتك التجربة الحزينة ,التى جمعت اسقاطات عديدة فى حياتنا فى هذة البقعة البائسة من الارض .
اسندت ظهرى للحائط فى انتظار جديد .. ادركت لحظتها ان الانتظار , احد انماط السجن , كان حولنا جمع من الزائرين فى اتتظار شئ ما . طال الوقت ورغم الاختلاف الواضح بيننا جمعنا الانتظار.
سرقة عمر اجيال ,, اهدار كرامة وطن ,.افشاء الجهل ..انحطاط الاخلاق .. اتشار الأمراض ..الفساد السياسى والمالى .. تهم لم يعاقب مرتكبوها بعد.. ترى لو طلبت مقالبة احد هؤلاء الفاسدين , هل كنت سأنتظرهكذا على الأبواب ؟؟ هل كانت قرابة الدرجة الأولى ستحول بيننا ؟؟ لا أظن
انهم مسؤولون عن دخول ذلك الفتى .. خلف هذه الأسوار رغم ان جريمته ليست سياسية .. ولكن طمعهم وفسادهم دفع به و بغيره لغيابات السجن .
, نفس نظرية ابن الحرام ... يسبه المجتمع ليل نهار , ولم بفكرلحظة ان يسب الحرام نفسه , أو من اتى الفاحشة وافلت من العقاب واتخذ اطارا اجتماعيا لائقا وترك ابن الحرام للتنكيل و لم يشغل باله بحل المشكلة .... كيف يقضى على الحرام ذاته أو يحد من ارتكابه ؟؟
السجن مكتظ ممن يقتص منهم المجتمع , أو ممن تمكن من تطيق العدالة عليهم , فى حين ينعم من أرسى اسس فساد المجتمع ولا تطبق عليهم قواانين السجن , حال دخولهم فيه ولو على سبيل المناورة .. هذا الشعب كله يستحق السجن بل الموت , شعب حقير ما بتطمرش فيه المعروف . هذا رأيهم بالقطع .
وأخيرا .. سمح لى بالدخول ..
ووجت عنبر مكتظ بالبشر ما بين السجناء وذويهم ووجدت تفاوت فى الطبقات الاجتماعية و اللامكانيات المالية أذهلنى .. طبقات راقية وبسطاء .. اغنياء وفقراء .
تفرست فى الوجوه وسط هذا اجمع الفريد بحثا عن صديقى , لم اجده بل وجدنى هو ,, لم اتصور ان ذلك اليوم من الممكن ان يحمل فرحا ,, لكنه فاجأنى من جديد .. فرحت حقا عندما رأيته
فخورا قويا ,, يخطط لما يمكن أن يفعله بعد انقضاء العقوبة , يدرس قى السنة الثانية من كلية الحقوق .. وأخبرنى بذلك ساخرا .. على أن استثمر عشرة المجرمين ادركت لحظتها ان الجريمة وحدها , ليست كافية لكسر نفس عزيز أوإذلاله , حتى السجن وسلب الحرية لا تكفى فهى تحمل حكمة القصاص لكل من يؤمن بالله ويعترف بخطأه , ويرغب فى التطهر من الذنب , انما الذل .. فلا.. لم يفلح هؤلاء الفسدة الذين كرسوا واقعا بائسا مزريا , زج بهذا العزيز الى السجن ..لم يفلحوا فى تحويله لابن حرام كسير النفس .
تفرست فى صديقى بعد سنوات الفراق العديدة ..وجدت الفتى صار رجلا يحمل معانى مختلفة للرجولة غير عاش يعتقد انها الرجولة , وتسببت فى الزج به الى السجن ..
وجدته حليق الرأس تماما.. ابتسمت داخل نفسى فصديقى لا يستطيع ان يتعامل إلا مع أرقى الحلاقين , فكيف يتعامل مع حلاق السجن .. الموس هو الحل ..
ولمحت فى عين صديقى نظرة قسوة , اشبه بتلك التى اراها فى أعين رجال المخابرات ,, لا أدرى ما سر التشابه رغم اخلاف الظرف , ربما كلاهما ويعيش مع العدو وخطأه يكلفه حياته .
وجدت مفردات المشهد تذكرنى بالأفلام , تحديدا فيلم امريكى لشاب يعمل فى المطار حالم يعشق زوجته ,لفقت له تهمه زجت به للسجن ..ورصد الفيلم ميلاده من جديد .. ولكن ليس كشاب حالم , بل وحش يفترس من يعتدى عليه , قادر على حماية حدوده و ممتلكاته .. هكذا تترجم صحبه المجرمين .
هكذا اكتشفت ما جد على صديقى من أحوال ..وجدت صديقى .. (القط المنزلى ) المدلل... الداجن ..الهارب دائما من الرقابة ..المتمرد على الطعام المتاح متباهيا بقدرتةعلى اطعام نفسه , وجدته تحول الى قط برى ان غفل تم التهامة , بحثت عن ذلك الطروب لم اجده , , وبحثت عن صبيانته وجنونه وجدتهما .. تبخرا
لم تعد آخر قصات الشعر, ولا الملابس المستوردة , ولا أفضل المطاعم ولا حتى فن الطبخ الذى يجيده .. أو إعجاب البنات أوالسهرات الحمراء .. هى همه أوشاغله .. لكنها حياة أخرى اشبه (بالبرذخ) موت فى انتظار البعث ..توقف مؤلم للوجود ,, يأتى بعدها البعث وهو وقت يحدده الله .. بعدها أما الجنة . أو النار .
القط المنزلى هرب , وعندما قرر العودة لم يجد المنزل , توغل فى الغابة , فرضت عليه قوانينها ولم يعد لديه رفاهية الأختيار عليه فقط .. أن يبقى على قيد الحياة .